الابداع والمبدعون ...
الإبداع كما يراه بعض الناس موهبة وحرية وعبقرية ، وهو مطلب حضاري جوهري لجميع الأمم . وهو ليس ترفاً بل ضرورة من ضرورات البناء ، ومقياس من مقاييس تطور الأمم ، ودليل على التقدم الحضاري . وهو الدافع لأي تقدم علمي أو فكري أو فني .
والمبدعون هم ثروة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها ، وهم الشموس التي تضيء غياهب التخلـُّف ، وعقولهم تخترق حواجز التقليد ، وتبحر صَوْب المجهول . ومن ثم فبقدر ما تنجح أمة في الكشف عن الطاقات الإبداعية لأبنائها والإفادة منها ، تكون أمة متقدمة ومتطورة حضارياً .
وقد تنبه العرب قديماً إلى أهمية الإبداع ، فمنهم من ألف عن الأذكياء لما للذكاء من علاقة وطيدة بالإبداع ، مثل ابن الجوزي وكتابه ( الأذكياء ) . ومنهم من ألف عن الذين تنسب إليهم أوائل الابتكارات والممارسات ، مثل ( الأوائل ) لأبي هلال العسكري ، و ( الوسائل إلى مسامرة الأوائل ) ، وغيرها .
واهتم الحكام والعلماء العرب قديماً بالإبداع ، فظهر كثير من المبدعين العرب في شتى المجالات النظرية والتطبيقية ، أمثال الجاحظ ، والمتنبي ، وابن سينا ، وابن الهيثم ، وابن رشد ، والأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية ، وغيرهم خَلْق كثيرون شيدوا حضارة عربية عالمية زاهرة لا نزال نعيش على ذكراها ، ونقتات بنتاجها ، ونزهو أمام الأمم بها .
لكن ما الإبداع ؟
لا شك أن الإبداع عملية معقدة يصعب تعريفها ، ولكن بشيء من التبسط يمكن استخلاص تعريفين للإبداع من الدراسات الحديثة التي دارت حوله ، فالإبداع ابتكار الشيء على غير مثال سابق .
أو هو : إنتاج شيء ما ، على أن يكون هذا الشيء جديداً في صياغته ، وذا تأثير في مجاله ، وإن كانت عناصره موجودة من قبل .
شروط العمل الإبداع
يتضح من التعريفين السابقين أن أي عمل إبداعي ينبغي أن يتوافر فيه شرطان اثنان ، الأول : أن يكون هذا العمل جديداً مبتكراً بعيداً عن النمطية والتقليد . وهذا لا يعني أن الإبداع ينشأ من فراغ ، فهو يمر في مراحله الأولى بالتقليد ، لكن لا يقتصر عليه ، وبمعنى آخر : إذا كان يُقْبَل من الشخص المبدع أن يقلد غيره في بداية حياته الإبداعية ، فلا يقبل منه - بحال من الأحوال - أن يظل أسيراً لهذا التقليد ، فأي تقليد ، وإن كان تقليداً ناجحاً ، لا يمكن عَدٌّه من باب الإبداع في قليل أو كثير
والشرط الثاني : أن يحمل هذا العمل الإبداعي جديداً إلى الناس والحياة ، بحيث يُشَكِّل إضافة نوعية حقيقية للمجال الذي ينتمي إليه ، ويؤثر تأثيراً جاداً وواضحاً في البيئة المحيطة ، وإلا كان لغواً لا قيمة له . فالإبداع لابد أن يسهم في تطوير الحياة والمجتمع والناس ، ويخطِّط لمستقبل أفضل ، وهذا هو الدور الحقيقي للمبدعين في مجتمعاتهم في أي زمان ومكان.
ونؤكد في هذا المقام على شخصية المبدع ، إذ المبدع شخص من طراز خاص ، يمتاز عن غيره من البشر بصفات خاصة تجعله جديراً بأن يكون مبدعاً . وأولى هذه الصفات الإحساس المرهف ، ذلك الإحساس الذي يجعله يشعر بما لا يشعر به الآخرون من غير المبدعين ، وينتبه إلى ما لا ينتبه إليه غيره . ويتصف المبدع كذلك بالخيال الواسع ، والذكاء ، والحرية ، بالإضافة إلى ما حباه الله به من موهبة الإبداع .
فالخيال الواسع يمكِّنه من اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء أو العناصر لم تكن موجودة من قبل ، كما يساعده هذا الخيال النشط على تصميم نماذج جديدة ، وصياغة أطر مبتكرة ، ولا يتأتى له ذلك إلا بالذكاء والفطنة . وباختصار المبدع شخص عبقري من طراز خاص .
إن المبدع في الأصل شخص موهوب ، لكنه لابد أن ينمي موهبته ويُصقلها بالتجارب ، وهو في حاجة ماسة إلى حرية حقيقية ، لينفلت من إسار الواقع والتقليد ، ويحلق في آفاق جديدة ، وليبحر صوب المجهول ، ولذا فإن التقاليد الصارمة ، والموروثات النمطية ، والحدود المصطنعة ، والروتين ، كلها مواد سامة تصيب المبدع في مقتل ، وتقضي على إبداعه ، بعد أن تُكبِّله وتسجنه وتشل تفكيره وخياله .
والإبداع - أياً كان فكرياً أو أدبياً أو فنياً - يحتاج إلى عوامل مهيِّـئة تساعد على نموه ، فهو يتطلب تربة خصبة وصحية لتنبت فيها بذوره التي لو لم تجد رعاية وعناية خاصة ، فلن تكتب لها الحياة ، فالمبدع بحاجة إلى أجواء نفسية صحية تتناسب وصفاته الشخصية ، من رهافة الحس ، وسعة الخيال ، والذكاء ، والحرية . فلا يُعْقَل أن يحيا الإبداع في بيئة تسودها العقد النفسية ، والضجيج ، والأمراض النفسية ، ويسيطر عليها الروتين ، والمنافع الشخصية ، والمحسوبيات ، وتسودها الأحقاد .
الدكتور / ماهر عباس جلال
{ بتصرف }
مواضيع مشابهة :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق