الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

كيف يثار الابتكار لدى الصغار والكبار

 extr2b
كيف يثار الابتكار لدى الصغار والكبار
مقالة للأستاذ الدكتور أنور طاهر رضا
جامعة ايجة – كلية التربية – رئيس قسم تكنولوجيا التعليم والحاسوب الآلي

المقدمة :
بدأت البحوث والدراسات الكثيفة في ميدان علم النفس قبل أكثر من قرن من الزمان . وكان ميدان الاختبارات أكثر الميادين التي لقيت اهتماما بالغا من علماء النفس . وأخذت الميادين الأخرى نصيبها من هذه البحوث والدراسات بمرور الأيام . وكان موضوع الابتكار ينظر إليه بكثير من التخوف والتجنب . وقد يعود سبب ذلك إلى تلك الشائكة التي تتمخض في صعوبة إجراء البحوث والدراسات في هذا الميدان العويص بالذات . وبقيت البحوث والدراسات نتيجة لذلك شحيحة في هذا المجال . وظلّت الحال على هذا المنوال إلى العقود الأخيرة من القرن العشرين . فظهر حين ذاك الاهتمام المتزايد بشكل جدّي وملحوظ .
نبع الاهتمام الجديد إلى مجال الابتكار من أهمية هذا الموضوع في عقود انفجرت فيها المعلومات انفجارا عظيما ، وانتشرت فيها وسائل التكنولوجيا انتشارا منقطع النظير . وأضحى إنتاج الشيء الجديد المبتكر هو الضمان الأساسي للترجيح والمفاضلة . وقد زادت أهمية الابتكار للمنافسة الشديدة بين الشعوب والمجتمعات في مجال العلم والتكنولوجيا من حيث أن الابتكار يضمن تقدم هذه الشعوب والمجتمعات وبقائها حيّة نشطة قويّة صلبة .
ونتيجة لهذه البحوث والدراسات فقد وجد أن الابتكار في طبيعته يختلف عن الذكاء الذي سبق وأن أولي بكثير من البحث والدراسة . فالذكاء لا يتأثر كثيرا بالتربية . بينما يتضاعف الابتكار أضعافا مضاعفة بواسطة التربية . لا يستطيع أن يكون كل فرد ذكيا ، فالذكاء يعود إلى الوراثة ، ومساهمة التربية فيه هي في إظهار تلك الوراثة حيّز الوجود . تختلف المسألة بالنسبة للابتكار ، إذ يستطيع كل فرد أن يكون مبتكرا إذا ما درّب على وسائل تحقيق الابتكار ، وأدرك العوامل التي تؤثر فيه . وطالما أن التربية تؤتي أكلها كل حين فيكون الابتكار جديرا بالاهتمام والدراسة .
وانطلاقا من هذا العرض يمكن أن تخطر في البال أسئلة عديدة في هذا المجال : ترى ما هو الابتكار؟ ما هي العوامل التي تؤثر في الابتكار ؟ ما هو موقع المثير من هذه العوامل ؟ ما هو المثير ؟ كيف يمكن توجيه الانتباه إلى المثيرات ؟ هل ينبغي تجمع المثيرات في اتجاه واحد ؟ كيف ينشغل الفكر بموضوع الابتكار كلّيا ؟ هل تختلف المثيرات في الحضر عنه في الريف ، في الصيف عنه في الشتاء ؟ كيف تتطور المثيرات في حياة الإنسان ؟ ما هي علاقة المثيرات بالابتكار ؟ هل يولِّد كل مثير استجابة ابتكار واحدة ؟ كيف يستقبل المبتكرون المثيرات ؟ ما الذي يهتم به في الابتكار ؟ كيف يمكن التدريب على تحقيق الابتكار ؟ كيف يحققّ الابتكار ؟
ما هو الابتكار ؟
تستخدم في هذا المجال إضافة إلى الابتكار مصطلحات عديدة أخرى ، تختلف بعض الشيء عن الابتكار . على أن هذه المصطلحات جميعا تندرج في الميدان نفسه ، وتحتاج إلى الابتكار . يندرج الإبداع والكشف والاختراع ضمن هذه المصطلحات . فالإبداع هو الإجادة في عمل شيء ما إجادة بالغة بإتقانه اتقانا تاما . فالجودة أو الكيفية تظهر نتيجة لاكتساب مهارات معينة ، وإتقان أعمال خاصة ، وأدائها بشكل يختلف عن أداء الآخرين ، وابتكار شيء ما فيها بشكل ملحوظ يجلب نظر الآخرين . الكشف هو التوصل إلى شيء جديد لم يسبق إليه أحد من ذي قبل . يتطلب الكشف المبادرة والجرأة والتضحية والابتكار . أما الاختراع فهو إيجاد آلة أو جهاز جديد ، أو تطوير وظيفة من وظائف آلة أو جهاز موجود . وجدير بالذكر أن كلا من الإبداع والكشف والاختراع إنما يحتاج إلى الابتكار حاجة ماسّة ، ولا يمكن بدونه تحقيق شيء من ذلك . وهكذا تكون هذه المصطلحات التي قد تبدو مختلفة لأول وهلة متداخلة ببعضها البعض .
الابتكار في أوسع معانيه : تحطيم القوالب الموجودة ، أو الخروج عن المألوف ، أو كسر قيود الفكر المفروضة على الفرد ، أو ارتياد طريق آخر غير الطريق الرئيسي الذي يسلكه الآخرون ، أو الانفتاح على خبرات الآخرين ، أو المباشرة بأول خطوة نحو المجهول ، أو وضع خط فكر جديد ، أو طرح بدائل مختلفة لمشكلة معروضة ، أو إيجاد شيء جديد يؤدي إلى إيجاد أشياء أخرى ، أو التوصل إلى إيجاد علاقات جديدة بين الأفكار المطروحة ، أو طرح فكرة جديدة ، أو إيجاد وسيلة أو طريقة غير معروفة سابقا ، أو ارتياد مكان جديد ، أو كشف شيء لم يسبق إليه أحد ، أو اختراع آلة أو جهاز جديد يفيد الإنسان .
ما هو المثير ؟
المثير أو المنبه أو الحافز هو كل شيء نراه أو نسمعه أو نلمسه أو نتذوقه أو نشمه . أي نتلقاه عن طريق حواسنا الخمسة ، التي تعتبر القنوات التي توصل العقل بما هو كائن في بيئة الإنسان المحيطة به . فوجود المثير بالنسبة لشخص معين رهن باستقباله عن طريق حاسة واحدة أو أكثر من حواس ذلك الإنسان . وبواسطة هذه الحواس ينتبه الفرد إلى وجود هذه المثيرات . فالانتباه ضرورة من ضرورات تلقّي المثيرات . يعني انتباه المرء لمثير معين تلقّيه هذا المثير واستجابته إليه . ويضاف بذلك هذا المثير كخبرة معينة في ذاكرة الشخص . وعدم انتباه الشخص إلى مثير معين يعني عدم وجود هذا المثير بالنسبة لذلك الشخص .
المثيرات كثيرة في الكون بحيث لا تعد ولا تحصى . ذلك لأن المثير هو أي شيء موجود على البسيطة وفي أعماق الذاكرة الإنسانية التي تبدو من وهلتها الأولى أنها في السطح كالبركان الذي هدأ وسكن منذ فترة طويلة . فقد يكون المثير إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو جمادا أو أي شيء آخر . وقد يكون مقالة أو فصلا من كتاب أو كلاما مأثورا أو برنامجا من محطة راديو أو قناة تلفزيون أو كلاما مع شخص قد يكون بائع فواكه أو موزع بريد أو … الخ . قد يكون المثير منظرا طبيعيا مرسوما على لوحة أو تلاطم أمواج بحر أو كتابة ما على الصحف والمجلات أو يما يتلقاه الفرد أثناء البحث في رفوف مكتبة ما أو أثناء التجارب التي يجريها في المختبر أو العمل في الورشة أو خطأ ارتكب بدون قصد واضح أو مجرد مشي في سوق أو محل عمل أو تجارة . وقد يكون هذا المثير نابعا من وجود الإنسان في بيئة معينة لعدة ساعات والتفكير في أمر ما يشغل باله كثيرا
المثير والانتباه
يحيط الفرد الاعتيادي في حياته اليومية بالآلاف من المثيرات المختلفة . ويكون من المستحيل أن يستجيب إلى كل هذه المثيرات لما يمكن أن تسبّبه له من تعب وإرهاق . ومن هنا يكون اختيار المثيرات أمرا طبيعيا . فيستجيب إلى البعض منها استجابة عميقة ويتفاعل معها ، ويمرّ ببعضها الآخر مرّ الكرام ، أو يستجيب لها استجابة سطحية ، بينما لا ينتبه إلى البعض الآخر ، التي قد
يشكّل الغالبية العظمى من هذه المثيرات . لا تعتبر الفئة الأخيرة مثيرات بالنسبة لهذا الفرد ، ولن يكون لها وجود في خبراته . ترى ما الذي يجعل فردا ما متلقّيا مثيرا دون غيره ؟ يلعب الانتباه عاملا أساسيا في هذا المجال . فالانتباه هو تركيز الذهن على عدد محدود من المثيرات في فترة زمنية معينة . وقد يكون هذا التركيز مقصودا من قبل الفرد أو مفروضا عليه من الخارج . يشير أنجل وسنيلكروف Engle and. Snellgrove; 1977, 224-225 ) ) إلى مجموعتين مهمتين من العوامل ، تلعبان دورا في جلب انتباه المرء إلى مثيرات معينة دون غيرها . الأولى متعلقة بالفرد نفسه ، والثانية مرتبطة بالمثيرات بحد ذاتها .
• العوامل المتعلقة بالفرد : تتضمن العوامل المتعلقة بالفرد حالة الفرد النفسية حال حدوث ذلك المثير . تتضمن هذه المجموعة الحاجات والاتجاهات والتوقعات والدوافع والخبرات السابقة . فالشخص الجائع على سبيل المثال ينتبه إلى المطاعم أكثر من الشخص الشبعان .
• العوامل المتعلقة بالمثير : تتضمن العوامل المتعلقة بالمثير تلك الخصائص الأساسية للمثير ، منها الشدة والحجم واللون والتباين والحركة والتغيير والجدّة والتكرار . ومع تجمع خصائص كثيرة في مثير معين يزيد من احتمال انتباه الأفراد لهذا المثير. تجلب حركة الدعاية الضوئية وألوانها الزاهية انتباه الفرد كثيرا .
تجمع المثيرات في اتجاه واحد :
يولِّد وجود المثيرات أو تجمعها في اتجاه واحد الإنارة والتبصر في العقل الإنساني بإيجاد علاقات معينة بين هذه المثيرات . فقرد كوهلر لم يتبصر إلى وجود العلاقة بين الحصول على الموز والصناديق عندما كان موليا ظهره بعض هذه الصناديق الموجودة في الغرفة . على أنه تبصّر لوجود هذه العلاقة عندما كانت الصناديق جميعا والموز في اتجاه واحد وأمام بصره . فوضع الحيوان هذه الصناديق فوق بعضها البعض وانحلت المشكلة بحصوله على الموز . وكانت الحالة نفسها بالنسبة للعصي ، إذ لم يتبصر تركيب بعضها بالبعض الآخر إلا عندما كانت جميعا أمام مرآه
انشغال الفكر الكلّي بالمشكلة
على أن الإنسان يختلف عن الحيوان من حيث الذاكرة . إذ يتميز الإنسان في الاحتفاظ بخبراته في ذاكرته فترة طويلة من الزمن . فيستخدم خبراته السابقة ، ويتأمل في الأمر ، ويكوّن العلاقة بينها وبين المثيرات الجديدة التي يتلقاها عن طريق حاسّة من حواسه . وإذا ما كان أمر ما يشغل باله كثيرا ، ويبحث عن حلّ له ، فانه قد يربط بينه وبين أي شيء آخر يراه أو يسمعه أو يتحسسه أو يشمه أو يتذوقه هنا وهناك . ومن أجل أن يشغل أمر ما بال الإنسان فلابد أن يعيشه بكل ما أوتي به من إمكانات . أي أن هذا الأمر يحتلّ جزء من حياته أينما حلّ وارتحل . فلا يفكّر إلا به ، في كل آن وحين ، في كل زمان ومكان . فيشغل هذا الأمر حيّزا كبيرا من ذهنه . وهذا ما يجعل الإنسان في تحفز لتلقي الإلهام ، وتكوين الارتباطات الجديدة . وإذا كانت المشكلة التي هو بصددها تدخل أحلامه فإن ذلك يعني أنه منشغل بها انشغالا تامّا ، وأن هذا الانشغال إنما وصل الدرجة القصوى التي يمكن أن يصل إليه . وما بعد هذا الانشغال الكثيف المركز إلا إنارة في الذهن كإنارة البرق السريعة ، تمر بالبال مرّا خاطفا سريعا جدا . وما عليه إلا أن يخطفها خطفا سريعا . فيكون تسجيل الأفكار إذن
ضروريا جدا . فما على المرء إلا أن يسجل أفكاره بطريقة ما دون أي نقص . وإلا فإن الخطفة السريعة هذه معرضة للنسيان لا محال . وقد لا تخطر هذه الأفكار بالبال مرة أخرى . ولا ينفع الندم عند ذاك شيئا .
وتظلّ هذه الذاكرة فعّالة أثناء اليقظة عندما يختلي الشخص بنفسه في الفراش قبل النوم أو بعده . أو عندما يدخل الحمام أو يحتل مقعدا في الحافلة أو يتواجد في أي مكان آخر . ومهما تظهر المشكلة على أنها منسيّة في الظاهر ، ومهما ينشغل المبتكر عنها بقضايا أخرى غيرها ، إلا أنها تمر بمرحلة من الاختمار ، وتكون محفوظة في لاشعور الفرد . وقد تقفز إلى الشعور في وقت يقابل فيه الإنسان مثيرا جديدا كفيلا بإثارته والتبصر في إيجاد علاقة جديدة .
وتبيت هذه الذاكرة فعالة حتى أثناء النوم . وقد يظهر التبصر على شكل رؤيا . ومن العلماء من توصلوا إلى إيجاد العلاقات بين المثيرات التي تشغل بالهم في النهار على شكل أحلام أثناء النوم . يعرف الباحثون في ميدان علوم الحياة قصة أوتو لوي ( Otto Loewi ) جيدا . يذكر تأريخ الاكتشافات أن هذا العالم كان يجري تجارب مضنية مستمرة على الخلية الحيوانية لسنوات طويلة ن لم يستطع خلالها حلّ المشكلة التي كانت تشغل ذهنه بأي حال من الأحوال . وأخيرا استطاع أن يحلّ هذه المشكلة في رؤياه . فأفاق من نومه ، وسجل ملاحظاته في الظلام ، ثم نام مرة أخرى . على أنه لم يستطع أن يقرأ خط يده بعد أن نهض من نومه في الصباح . وهكذا فقد نسي الحلّ الذي انتظره بصبر فارغ لسنوات طويلة . على أن هذا العالم كان محظوظا جدا . فقد رأى الرؤيا نفسها في الليلة التالية . وما أن أفاق من نومه في هذه المرة حتى أضاء المصابيح ، وعجّل بالذهاب إلى مختبره ، وسجّل رؤياه بالكامل دون أن يدع أي مجال للنسيان . لقد حصل هذا العالم نتيجة أعماله هذه جائزة نوبل العالمية الشهيرة .
تشبه قصة اختراع ماكينة الخياطة القصة السابقة . يذكر اونيل ( O`neil, 1995, 25l) قصّة الياس هوي ( Elias Howe ) مع غيرها من قصص الاختراعات في الأحلام . إذ كان مخترع ماكينة الخياطة هوي قلقا جدا لأن جهوده في تركيب الخيط بالإبرة كانت تبوء بالفشل رغم المحاولات المضنية التي كان يبذلها . لقد آوى المخترع إلى الفراش في ليلة بعد عمل متعب ، ورأى في منامه أنه قبض عليه من قبل رجال قبيلة وحشية ، وأخذ إلى رئيس القبيلة ، الذي أمره إما أن يصنع ماكينة خياطة متكاملة أو أنه سوف يفتك به . فباءت محاولات هوي في النوم بالفشل أيضا . ازداد رئيس القبيلة غضبا ، وأمر بقتله . وتقدم رجال القبيلة نحوه ، وهم يحملون رماحا مثقوبة . أفاق المخترع من هول ما رأى . أستنتج من حلمه أن الإبرة كالرماح يجب أن تثقب من منتصفها ، ويركب فيها الخيط من هذا الثقب كما يحصل الآن في ماكينة الخياطة .
وهناك أمثلة أخرى من غير لوي وهوي ممن توصلوا إلى اختراعاتهم في الأحلام . يذكر عن توماس أديسون ( Thomas Edison ) مخترع المصباح الكهربائي بأنه قال أن أفضل أفكاره كانت تأتيه أثناء النوم . وذكر الفيزياوي المشهور انشتاين ( Albert Enstein ) كلاما شبيها بذلك . لقد كتبت القصاصة الشهيرة شارلوت برونتي ( Charlotte Bronte ) قصتها المشهورة جين آير ( Jane Eyre ) بناء على ما شاهدته من أحلام خلال النوم . ذكر الملحن ايكور سترافنسكي ( Igor Stravinsky ) مرة بأن أحسن طريقة لحل مشكلات الألحان الموسيقية هو النوم عليها .
ومن أجل أن يشاهد الإنسان شيئا ما لابد أن يكون هذا الشيء قد أشغل ذهنه كثيرا . إن الانشغال الزائد بمشكلة ما يدفع الإنسان إلى التوصل إلى أفكاره المبتكرة سواء كان خلال اليقظة أو أثناء النوم . يحافظ الانشغال الزائد العقل فعالا . وتلهم فعالية مخ الإنسان المستمرة بالأفكار الجيدة . ومن أجل المحافظة على فعالية المخ الدائمة لابد من التفكير العميق .
المثيرات في الحضر والريف :
تختلف المثيرات في الحضر عنها في الريف من حيث العدد والنوع . ويختلف بذلك الحضري عن الريفي في تلقيه للمثيرات المختلفة . فالمثيرات قليلة في الريف ومعظمها طبيعية . ويستجيب الريفي بناء على ذلك استجابة عميقة لهذه المثيرات . أما المثيرات في المدينة فتكون كثيرة جدا ، ولا يمكن للساكن في المدينة أن يستجيب استجابة عميقة لكل هذه المثيرات . ذلك لأن الاستجابة إنما تتطلب صرف طاقة كبيرة ، وتتعب الجهاز العصبي لدى الإنسان . ولهذا السبب تكون استجابة المدني للمثيرات بشكل عام استجابة سطحية .
المثيرات في الصيف والشتاء :
تختلف المثيرات من فصل إلى آخر خلال السنة الواحدة . يكون النهار في الصيف طويلا ، بينما يكون في الشتاء قصيرا ، ويتساوى مع الليل في الربيع والخريف . ولما كان الإنسان يعمل في النهار ويأوي إلى بيته في الليل فإن المثيرات التي يتعرض لها في نهار الصيف الطويل أكثر مما يتعرض له في نهار الشتاء القصير . ويتعب الإنسان في أيام الصيف أكثر مما يتعب في أيام الشتاء . لقد حدت هذه الوضعية بعالم الاجتماع دوركهايم إلى أن يعزو ارتفاع نسبة الانتحار في أشهر الصيف عنها في أشهر الشتاء إلى كثرة المثيرات التي يتلقّاها المنتحر في أشهر الصيف .
فترة الطفولة والمثيرات :
يعيش الجنين الإنساني في بيئة آمنة مطمئنّة في رحم الأم . تكون المثيرات في هذه البيئة محدودة جدا بالنسبة للجنين . إلا أن الأدلة تشير بأن المؤثرات الموسيقية تزيد من حركات الجنين في رحم الأم كاستجابة لهذه المؤثرات . ينتقل الوليد الإنساني مع الولادة إلى بيئة غنيّة بالمثيرات . تكون هذه المثيرات بمجموعها جديدة بالنسبة له . فيتعلم عنها ما يصل إليه عن طريق حواسه الخمسة . يميز الطفل منذ البداية بين نوعين من هذه المثيرات : تلك التي تعطيه اللذة فيقبل عليها ، وتلك التي تولِّد لديه الألم فيتجنب منها . يكون سلوك الوليد في معظمه في بداية الأمر سلوكا انعكاسيا لا إراديا بسيطا جدا .
تبدأ بيئة الطفل الأولى من البيت الذي يتضمن عددا محدودا من المثيرات مقارنة بالبيئات الأخرى الموجودة خارج هذا البيت . ومع نمو الطفل المطّرد وبسرعة كبيرة وخاصة في جهازه العصبي مع نهاية السنة الثانية من العمر ، وتعلمه المشي وشروعه بالجري وصعود السلالم وانتقاله من مكان إلى آخر تزداد المثيرات التي يستقبلها في البيئة المجاورة بمنطقة السكن أولا . يحاول الطفل أن يكتشف كل ما يحيط به من أشياء لما هو مزود به من حب للاستطلاع . وتنمو الحواس وتتميز وضوحا ، وتظهر الانفعالات وتتمايز ، ويتسع عالم الطفل الاجتماعي من المنزل والأسرة إلى الجيرة والمحلة . ومع تعلمه اللغة يبدأ بالتعبير عما يصل إليه عن طريق حواسه أو ما يفكر به بالألفاظ .
ومع إكمال السنوات الخمسة الأولى من العمر يكتسب الطفل مهارات حركية جديدة كالجري والقفز والحجل والتسلق وركوب الدرّاجة . تساعد هذه الفعاليات التعرض إلى مثيرات جديدة . ويتساءل الطفل كثيرا في هذه المرحلة عن كنه الإنسان والحيوان والنبات والأشياء والكون . وتكون أسئلته في كثير من الأحيان مربكة للكبار الذين يحيطون به . يظهر على الطفل سلوك الاستطلاع والاستكشاف . ويطرد نمو الذكاء ، وتزداد فترة الانتباه لديه . يمرّ الطفل بفترة من تقليد الكبار فيما يقومون به من أعمال وما يتحدثون به من أقوال . يتميز الطفل في هذه المرحلة باللعب الخيالي وأحلام اليقظة ، ويدور تفكيره حول نفسه . يلعب الراديو والتلفزيون كتنبيه في النمو اللغوي . تؤثر القصص والحكايات على نموه اللغوي . يتعلم المعايير الاجتماعية ، ويصادق الأطفال الذين يماثلونه في العمر .
يتميز الطفل المعاصر بأنه أوفر حظا من طفل الأمس بما يستقبله من مثيرات كثيرة من محطات الراديو وقنوات التلفزيون التي تنقل إليه كل شيء موجود في العالم الخارجي إلى داخل البيت . ينتبه الطفل إلى هذا الجهاز منذ الأشهر الأولى من حياته ، ويتابع ما يعرض فيه من برامج متنوعة . يتضمن التلفزيون مثيرات غنيّة لا تعد ولا تحصى . تتميز مثيرات التلفزيون بأنها تتغير بسرعة كبيرة . تجلب الأفلام ولا سيما الكارتونية منها أنظار الأطفال لما فيها من خيال وفير وحركة سريعة وألوان زاهية تسرّ الناظرين .
ومع عمر رياض الأطفال تتوسّع بيئة الطفل ، وتزداد المثيرات التي يستقبلها . ويزداد الخيال لديه في هذه الفترة الزمنية ، ويصل إلى أقصى مستواه في عمر الخامسة . والخيال والتفكير مثيران داخليان يتم فيهما تصفية وترشيح وتطوير المثيرات الخارجية ، وتنظيمها بطريقة بحيث تكون صالحة للخزن في الذاكرة الإنسانية ، ومقبولة في كثير من الأحيان للطفل ومن يحيط به .
تتوسّع بيئة الطفل لما يكسبه من سهولة في الانتقال مع تقدم العمر . وتزداد المثيرات كثيرا في عمر المدرسة الابتدائية بما يتعلمه من القراءة والكتابة والحساب والرسم والمهارات الجسمية ، فتزداد المثيرات بذلك وخاصة تلك التي تأتي من بطون الكتب المختلفة ، وما يصل إليه من مجلات وجرائد . تتوسّع البيئة الاجتماعية مع الذهاب إلى المدرسة ومشاركة المجتمع في بعض من فعالياته والانضمام للجماعات الجديدة . تحتل القصص والحكايات لدى الأطفال مرتبة خاصة بين المنشورات لما فيها من خيال خصب . ينمو التفكير المجرد ، ويميل الطفل تدريجيا نحو الواقع ، ويزداد لديه الإبداع والتفكير . ينمو لديه حب الاستطلاع . يزداد احتكاك الطفل بجماعات الكبار واكتسابه المعايير الاجتماعية والاتجاهات والقيم الاجتماعية . ويثور على الروتين . يتفاعل اجتماعيا مع الأقران . يكتسب التعصب خلال عملية التنشئة الاجتماعية . يتجوّل الطفل في البيئة المحلية بحرية لوحده أو مع أصدقائه ويقرأ الجرائد ويستمع إلى الراديو ويشاهد التلفزيون ويستخدم الكومبيوتر . وفي كل ذلك يتعرض إلى مثيرات أكثر عددا وأوسع تنوعا .
وفي فترة المراهقة تتوسع بيئة الطفل كثيرا ، وتبدأ الاهتمامات الجديدة لدى المراهقين . تتكون الهوايات وتتطور شيئا فشيئا . تتطور الصداقات لدى المراهقين . يتعلم المراهق أشياء كثيرة من زملائه .
علاقة المثيرات بالابتكار :
يولد الإنسان وهو مزود بنظام عصبي فريد في نوعه بين الحيوانات من حيث أنه بلغ الذروة في سلّم التطور . يتصل هذا النظام بقنوات الاتصال الخمسة بالعالم الخارجي لفهم وإدراك كنه ما يجري فيما يحيط به . وهو بنظامه هذا يتفاعل مع البيئة المحيطة به فور ولادته . والأشياء التي تنقلها هذه الحواس إلى النظام العصبي عبارة عن مثيرات . وتكمن غرابة الإنسان في أنه يخزن هذه المثيرات في نظامه العصبي . وليس هذا فحسب ، بل يرشحها من الدماغ بشكل قد يختلف عن أصله كمّا ونوعا ، ثم يخزنها في ذاكرته . وكلّما تلّقى الإنسان مثيرات أكثر كلّما كان مخزونه أوفر وكلما كان جهازه العصبي أكثر تطورا . ويعود إلى مخزونه لكي يقيم علاقات بين هذه المثيرات من ناحية وتلك المثيرات الجديدة التي يتلقاها في كل آن وحين . قد تكون هذه العلاقات بسيطة أو معقّدة . وكلّما زاد تعقّد هذه العلاقات كلّما كان الابتكار أوفر حظا . لا يولد الإنسان مبتكرا أو مبدعا أو مكتشفا أو مخترعا . وكلّما كثرت المثيرات التي يتلقاها الإنسان من البيئة كلّما نما هذا الجهاز العصبي ، وكلّما كان أقدر على تكوين علاقات جديدة ، وكلّما كان أكثر حظا في الابتكار .
ترتبط المثيرات إذن بالابتكار ارتباطا وثيقا ، وزيادة عددها تفيد الابتكار كثيرا . أما ابتكار المحرومين من المثيرات فيكون محدودا جدا ، وتنويع المثيرات مهم كأهمية أعداد المثيرات . وقد حاول البعض توضيح هذه العلاقة على شكل معادلة تتضمن عدة عناصر . لقد ابتكر هول وويكر Hall and Wecker: 1996: 6 ) ) المعادلة التالية للاختراع من أجل توضيح هذه العلاقة :
الاختراع = ( المثير + نظام عمل الدماغ )الهزل
تبين هذه المعادلة أهمية المثيرات والهزل في الاختراع . تبرز المعادلة أهمية الهزل أكثر من المثيرات . على أن المعادلة كل واحد ، وعدم وجود عنصر منها يؤدي إلى الخلل فيها . إذا قبلنا الاختراع نتيجة من نتائج الابتكار فإن المعادلة تبرز على أن المثير إنما يشكل نقطة البداية للابتكار . وبدون هذا المثير لن يحصل الابتكار .
هل يولّد كل مثير استجابة ابتكار واحدة فقط ؟
ومثلما يُولِّد مثير استجابة لفرد فقد لا يُولِّد هذا المثير استجابة لفرد آخر . ووجود المثير بالنسبة لشخص معين رهن بإثارة هذا المثير استجابة ما . فكل مثير يتلقاه الفرد يولد استجابة معينة طالما أن الإنسان قد تلقاه . المثير الجيد هو ذاك المثير الذي يولّد سلسلة من الاستجابات . والمثير الأحسن هو ما يثير سلسلة من الاستجابات التي تؤدي إلى سلسلة أخرى غيرها . وتختلف نوعية الاستجابات أيضا من شخص إلى آخر . وجودة الاستجابة في كثرة ما تثير من استجابات لدى الفرد نفسه أو الأفراد الآخرين . فتكون بذلك كالحجارة التي ترمى في بحيرة ماء راكدة . فتثير أمواجا ، وتتلاطم هذه الأمواج ببعضها البعض ، فتثير أمواجا أخرى غيرها .تبنى الاستجابات على إيجاد علاقات أو ارتباطات جديدة بين الاستجابة الجديدة والاستجابات الأخرى الموجودة في الذاكرة . وكلّما كانت الارتباطات كثيرة في الكمّ ، كلما كان احتمال النوعيّة عالية في الاستجابة . إذ أن هناك علاقة إيجابية عالية بين الكمّ والكيف . فكثرة كمّ الأفكار تحسّن الجودة . فالكمّ يولّد الكيف عاجلا أم آجلا .عندما ينتبه المرء إلى مثير جديد موجود في الطبيعة فإن سلسلة من الأفكار تتفتّق في ذهنه ، وتدوم فترة من الزمن . ومن هنا يكون استقبال المثيرات مهمّا جدا . فكلما كانت هذه المثيرات أكثر عددا ، كلما كان احتمال تشكيل علاقات وارتباطات جديدة أكثر . ففكرة واحدة قد تولّد أفكارا كثيرة ، شأنها شأن حبة تولّد سبع سنابل ، في كل سنبلة مائة حبّة . ويلهم الله من عباده من يشاء أفكارا أخرى غيرها .
كيف يستقبل المبتكرون المثيرات ؟
لاشك أن المثيرات التي تولّد أفكارا مبتكرة تختلف من شخص إلى آخر . ويرجع السبب إلى أن لكل شخص تراكم متشابك من الخبرات الفريدة في نوعها ، وتختلف عما هي موجودة لدى شخص آخر . فما يكون مثيرا لشخص ، ويولّد استجابات معينة يولّد استجابات أخرى غيرها لشخص آخر . وهذا الانفراد في الاستجابات هو الخروج على المعتاد المألوف الذي يكمن فيه سرّ الابتكار .
يتميّز المبتكر عن غيره بأنه يكون ملاحظا جيدا ، ومدقّقا في الأمر أكثر من غيره ، ومتأملا ومتفحّصا دقيقا . فما يراه هذا المبتكر لا يراه غيره . وينتبه إلى ما لا ينتبه إليه أحد . وما لا يثير غيره يثيره هو . تكون عيون قلوبهم مفتوحة ، ويتبصرون بها ما لا يراه الآخرون . يظهرون حسّاسية أكثر من غيرهم . فالمبتكر هو ذلك الملاحظ الجيد لما يتلقاه من البيئة من مثيرات ، والمتفحص والمدقق لما يلاحظه من مثيرات ، والمستجيب لما يتفحّص ويدقّق من مثيرات مهما كانت قيمتها الظاهرية تبدو للغير بسيطة وقليلة .
التوصيات :
انطلاقا مما سبق يمكن تقديم التوصيات التالية :
• توفير المثيرات الكثيرة في البيئة التي يعيش فيها الطفل . فقلة المثيرات تؤدي إلى حرمان الأطفال من كثير من الخبرات التي قد تكون سببا لإثارة الابتكار لديهم . أما الغنى في المثيرات فإنها رهينة بإثارة الابتكار لديهم .
• تعليق الصور والمناظر الطبيعية في غرفة الطفل وخاصة من تلك الأنواع التي يمكن تغييرها في كل يوم عن طريق القلب لتعريضه على مثيرات مختلفة .
• تنويع المثيرات التي يتعرض لها الأطفال في بيئتهم التي يعيشون فيها . فالتنويع يشمل الكتب والمجلات والصحف والأفلام والشرائح والمسجلات .
• التوجه نحو استخدام التكنولوجيا الحديثة وخاصة جهاز الكومبيوتر وشبكات الانترنت لما فيها من مثيرات غنيّة جدا لا تعدّ ولا تحصى ومتنوّعة تنوّعا هائلا جدا تشمل كافة ما يمكن أن يرغب الإنسان أن يطّلع عليه .
• تدريب الصغار منذ نعومة أظفارهم على تلخيص الأفكار باستخدام تعبيرهم الخاص . تعطى فقرات من كتابات معينة للأطفال ، ويطلب منهم تلخيصها بشكل معين بطريقة فردية أو جماعية . تقارن الملخصات ببعضها البعض ويكافأ الجيد منها .
• تعويد التلاميذ منذ السنوات الأولى من المدرسة الابتدائية على الوقفة المبتكرة على كل شيء موجود في هذه الطبيعة . تكون الوقفة المبتكرة على شكل تأمل وتفحص وتدقيق وتركيز دقيقوتفكير عميق على موضوع معين لفترة قد تستغرق عدة دقائق .
• تعويد الصغار منذ نعومة أظفارهم على أخذ الملاحظات التامة وتسجيلها في دفتر عن كل ما يجدونه في الحياة أو يقرؤون . يكون الاحتفاظ بهذه الدفاتر ضروريا طول الحياة . كما أن إلقاء النظر في محتويات هذه الدفاتر بين فترة وأخرى يكون مفيدا من زاوية الابتكار من حيث أنها تشكل مثيرات ، وتساعد في إيجاد علاقات جديدة بين المثيرات المختلفة .
• الأفكار التي تراود الإنسان لا تأتي مرة واحدة وبالكامل . ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك مشكلات على وجه الأرض . إن الأفكار إنما تقفز على البال بين فترة وأخرى وبشكل خاطف ثم تختفي مباشرة . يكون تسجيل الأفكار ضروريا أين ومتى ما أتت دون أي ضياع في الوقت .
• تعويد التلاميذ على إنهاء واجباتهم المنزلية قبل فترة مناسبة من الموعد المطلوب . يصرف الوقت المتبقي للتفكير من أجل التطوير . وبعبارة أخرى تحتاج الأفكار إلى أن تمرّ من مرحلة ما تسمّى بالاختمار . وفي اختمار الأفكار إبداع وابتكار .
• دعوة الطفل إلى أن يكون ملاحظا ومراقبا جيّدا لكل ما يحيط به . وتوجيه أسئلة لكشف دقة انتباهه بعد زيارة لبيت صديق للعائلة أو سوق أو أي مكان كائنا من كان .
• اللعب بالدمى والألعاب التي تحتاج إلى بناء وهدم يثير لديهم الخيال ويظهر ابتكاراتهم .
• عدم ترك أسئلة الأطفال بدون إجابات مهما كانت ، والإجابة عليها بالشكل الذي يفهمه . إثارة أسئلة مستمرة وتوجيهها للأطفال وخاصة تلك الأسئلة التي تكون من النوع المفتوح لكي يتوجه للبحث والاستقصاء والدراسة المنظمة .
• توجيه الأطفال إلى الاحتكاك المباشر بالطبيعة وما فيها من السهول والهضاب والوديان والجبال والكهوف والصحاري والبحار والأنهار .
• مصاحبة الأطفال في زيارة الأسواق والمحلات التجارية وتفحّص المعروضات المختلفة وما فيها من أشياء جديدة ودراسة مزاياها وخصائصها .
• توجيه انتباه الطفل نحو السماء وما فيها من نجوم وشمس وقمر .
• توجيه انتباه الطفل نحو الحيوانات والنباتات وأهميتها الطبيعية في حياة الإنسان .
• توجيه انتباه الطفل نحو المظاهر الطبيعية التي تشمل على البرق والرعد والغيوم والأمطار والثلوج والرياح والعواصف والزلازل والبراكين .
الخاتمة :
المثير أو المنبه أو الحافز هو كل شيء نتلقّاه عن طريق حواسنا الخمسة بما هو كائن في بيئة الإنسان المحيطة به . وبواسطة هذه الحواس ينتبه الفرد إلى وجود هذه المثيرات . فالانتباه ضرورة من ضرورات تلقّّي المثيرات . المثيرات كثيرة في الكون بحيث لا تعد ولا تحصى . يولِّد وجود المثيرات أو تجمعها في اتجاه واحد الإنارة والتبصر في العقل الإنساني بإيجاد علاقات معينة بين هذه المثيرات . وإذا كان هناك أمر ما يشغل باله كثيرا ، ويبحث عن حلّ له ، فانه قد يربط بينه وبين أي شيء آخر يراه أو يسمعه أو يتحسّسه أو يشمّه أو يتذوقّه هنا وهناك . ومن أجل أن يشغل أمر ما بال الإنسان فلابد أن يحتلّ جزء من حياته أينما حلّ وارتحل . فلا يفكّر إلا به ، في كل آن وحين ، في كل زمان ومكان . وهذا ما يجعل الإنسان في تحفز لتلقّي الإلهام ، وتكوين الارتباطات الجديدة .
يعيش الجنين الإنساني في بيئة تكون المثيرات فيها محدودة جدا . إلا أن الأدلّة تشير بأن المؤثرات  الموسيقية تزيد من حركات الجنين في رحم الأم كاستجابة لهذه المؤثرات . ينتقل الوليد الإنساني مع الولادة إلى بيئة غنيّة بالمثيرات . يميّز الطفل منذ البداية بين نوعين من هذه المثيرات : تلك التي تعطيه اللذة فيقبل عليها ، وتلك التي تولِّد لديه الألم فيتجنب منها . يكون سلوك الوليد في معظمه في بداية الأمر سلوكا انعكاسيا لا إراديا وبسيطا جدا .
ومع نمو الطفل المطّرد وبسرعة كبيرة وخاصة في جهازه العصبي مع نهاية السنة الثانية من العمر ، وتعلمه المشي وشروعه بالجري وصعود السلالم وانتقاله من مكان إلى آخر تزداد المثيرات التي يستقبلها في البيئة المجاورة بمنطقة السكن أولا . ومع إكمال السنوات الخمسة الأولى من العمر يكتسب الطفل مهارات حركية جديدة كالجري والقفز والحجل والتسلق وركوب الدرّاجة . تساعد هذه الفعاليات التعرض إلى مثيرات جديدة أخرى . ويتساءل الطفل كثيرا في هذه المرحلة عن كنه الإنسان والحيوان والنبات والأشياء والكون . يظهر على الطفل سلوك الاستطلاع والاستكشاف . يتميز الطفل في هذه المرحلة باللعب الخيالي وأحلام اليقظة ، ويدور تفكيره حول نفسه . يلعب الراديو والتلفزيون كتنبيه في النمو اللغوي . تؤثر القصص والحكايات على نموه اللغوي . يتعلم المعايير الاجتماعية ، ويصادق الأطفال الذين يماثلونه في العمر .
ومع عمر رياض الأطفال تتوسّع بيئة الطفل ، وتزداد المثيرات التي يستقبلها . ويزداد الخيال لديه في هذه الفترة الزمنية ، ويصل إلى أقصى مستواه في عمر الخامسة . والخيال والتفكير مثيران داخليان يتم فيهما تصفية وترشيح وتطوير المثيرات الخارجية ، وتنظيمها بطريقة بحيث تكون صالحة للخزن في الذاكرة الإنسانية ، ومقبولة في كثير من الأحيان للطفل ومن يحيط به . وتزداد المثيرات كثيرا في عمر المدرسة الابتدائية بما يتعلمه من القراءة والكتابة والحساب والرسم والمهارات الجسمية ، فتزداد المثيرات بذلك وخاصة تلك التي تأتي من الكتب المختلفة ، وما يصل إليه من مجلات وجرائد . ينمو التفكير المجرد ، ويميل الطفل تدريجيا نحو الواقع ، . ينمو لديه حب الاستطلاع ، ويزداد لديه الإبداع والتفكير. يزداد احتكاك الطفل بجماعات الكبار واكتسابه المعايير الاجتماعية والاتجاهات والقيم الاجتماعية . يتفاعل اجتماعيا مع الأقران . يكتسب التعصب خلال عملية التنشئة الاجتماعية . يتجوّل الطفل في البيئة المحلية بحرية لوحده أو مع أصدقائه ويقرأ الجرائد ويستمع إلى الراديو ويشاهد التلفزيون ويستخدم الكومبيوتر . وفي كل ذلك يتعرض إلى مثيرات أكثر عددا وأوسع تنوعا .
وفي فترة المراهقة تتوسع بيئة الطفل كثيرا ، وتتكون الهوايات وتتطور شيئا فشيئا . تتطور الصداقات لدى المراهقين . يتعلم المراهق أشياء كثيرة من زملائه . وكلّما تلّقى الإنسان مثيرات أكثر كلّما كان مخزونه أوفر وكلما كان جهازه العصبي أكثر تطورا . ويعود إلى مخزونه لكي يقيم علاقات بين هذه المثيرات من ناحية وتلك المثيرات الجديدة التي يتلقاها في كل آن وحين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق